.
ذات شتاء التقينا...
يومها تعرفت اليه .
يومها كان لقدري اسم موسيقي مدوزن : نسيم .
يومها كانت الدنيا احتفالا بالمطر . كان الجو باردا و لم يكن احد يفكر بمغادرة منزله . كل خطط التنزه و التبضع أجلتها خيوط الماء المنهطلة بغزارة ، و لذا قررت الذهاب الى البحر .
كنت عكس الناس مجنونا و انا أرغب بامتلاكه وحدي ، و لذا ضايقني و أنا انزل من مساحات الإسفلت الى شاطئه الرملي أن أجد سائحين أجنبيين قد سبقاني اليه ربما حتى يحتفلا بعيد زواجهما على غير العادة . يومها كان الزبد لونا غائبا في لوحة ، مثلما رحلت النوارس الى حيث لا أدري . لم يكن ثمة في الأفق قرص شمس ارجواني لأشهد غروبه و قد حجبته السحب الكثيفة الداكنة . كنت أنا و الأمريكيين ثلاثة ... و رابعنا هو .
فجأة – لكأنما ولد من عدم – وجدته واقفا أمامي على بعد أمتار فقط . لم يكن بين قدميه و بين خيوط الماء سوى خطوات قليلة . المطر يغمره و هو واقف يتأمل البحر في صمت مستندا الى مطريته المغلقة كأنها عصاه .
أربكني جنون هذا الرجل .
تقدمت منه لأكلمه :
- طاب يومك .
لم يلتفت الي . أعدتها ثلاثا و لم يلتفت . عرفت ان هدير البحر طاغ على كل صوت عداه . دنوت حتى صرت بمحاذاته ثم قلتها مجددا . نظر الي و قال :
- يومك أطيب . الجو رائع .
قالها و عيناه على مطريتي التي اقف تحتها مرتعشا بردا . نظرت اليه و أنا أسأل نفسي سرا : الجو رائع ؟؟ حتما لم يكن رائعا ، كان جوا يليق بمن هم مثلنا على درجة من الجنون . كان كل واحد منا يتأمل غرابة الثاني في صمت . البحر فقط هو ما تقاطعنا عنده و قد نجح في استدراجنا اليه .
من يومها و نسيم رجل يكره ربطات العنق .
ما زلت أذكر ثيابه المبللة تلك : سترة جلدية سوداء تبرز من أعلاها ياقة قميص أبيض مفتوح من الأعلى بمسافة زرين . كان صدره مكشوفا للبرد و الماء على السواء ، و كنت حينها أحاول العثور على جواب لسؤالي ذاك : لماذا أحضر المطرية طالما أنه يريد الوقوف تحت المطر ؟
سألته لأني لم أرغب ان نفترق دون جواب . نظر الي مستغربا كأني اسأل عما هو بديهي . قال :
- إنها من طقوس المطر... يحتمي بها من يخافون الماء ، أما انا فلا أخافه . هل أنت خائف ؟
سألني بنبرة ساخرة و عيناه تعودان لتتسلقاني وصولا الى مطريتي . عن سابق عناد ، عن رجولة ، عن مكابرة و ربما عن شيء ما همني اسمه لحظتها أجبته و أنا أغلقها :
- مطلقا . فقط لم أرد أن تبتل قصيدتي .
أريته ورقة بها مقطع كتبته بالمقهى قبيل قدومي الى الشاطئ . كانت الورقة الرابحة التي استخدمتها حتى لا ابدو أمامه رجلا يحتمي بمطريته – كالخائفين – من الماء .
- هل أنت شاعر ؟
عرفت انها ورقة رابحة حقا . رغم نبرة الشك في صوته اجبته :
- أحيانا .
- و أحيانا ؟
- صحفي .
- و بينهما ؟
- رجل يختبر جنونه امام البحر في يوم كهذا .
ضحك ...ضحك كثيرا ...لم أسأله علام و أنا أصد هجومه بآخر مضاد :
- و أنت ؟
- أنا ماذا ؟
- ماذا تفعل ؟
- اختبر جنوني امام البحر .
- أحيانا . و أحيانا ؟
- لا . دوما . هذا ما أفعله دوما .
أدركت قصده . أعدت السؤال بصيغة مقلوبة :
- و ماذا تعمل ؟
- آه . أنا أيضا صحفي .
- أحيانا . و أحيانا ؟
ابتسمت و أنا أدري أنني نصبت له فخا محكما ، لكنه سار في الوجهة المضادة للتوقع مرة اخرى مجيبا :
- لا . أخطأت ثانية . أنا صحفي دوما . لست شاعرا مثلك و لا أمتهن شيئا آخر سوى الصحافة .
ابتسمت و انا اسأل نفسي من اين جاء هذا الرجل .
من وقتها لم نفترق . أشياء كثيرة مرت بنا ، و بقينا معا . من أول الزلازل التي أسقطت غيرنا و حتى آخر الموت الذي اختاره دوني ظل كل واحد منا يحمل منفاه داخله و تراب البلاد قبضة ماء .
المخلص للوجع
خالد[/size]